(مادة مرشحة للفوز بمسابقة كاتب الألوكة الثانية)
يَكتب قصَّة من أجْل رغبة محمومةٍ تلتفُّ
حوله، ولا يجِد منها فكاكًا غير أن يَحكي، ثم يمضي قُدمًا، منساقًا تمامًا؛
لأنًه إن التفتَ يَنْزلقُ الحَكْي من على أطرافه إلى لا قرار، ثم أين هو
بعد ذلك، ويكتب قصَّة عندما يحب أن يكتب ما لم تعتده الحياة، ويغار أن
يُواري التراب جسدًا لم يُدركه النفوق بعدُ، ويكتب قصة بسببٍ من الغضب
العظيم، أو الحبِّ العظيم، لكنه الآن وفي هذه المرَّة يحبُّ أن يكتب قصة؛
لكي يُنهي مرحلةً، ليبدأ أخرى من حياة القاصِّ الإنسان.
يُحكى أنَّ آلاف القصص التي كتبَها
أحدُهم، لم يجد مَن يَقرؤها، وكان يعلِّل ذلك في نفسه بأنَّ القراءة
أصبحَتْ من النشاطات الإنسانيَّة المندثِرة، وأنَّ العقل قد احتُلَّ
بالإلكترون، والحياة على الأرض قد تكثَّفت في السيد (
الجين gene)، كان يشتكي دائمًا من أنَّ الإنسان أصبح لا يكاد يُميَّز بشيءٍ عن نظيره الآليِّ
robot، وكاد هذا الأمر يأخذ بِلُبِّه، فقعد حزيبَ أمرِه، يفكِّر كيف يصبح قاصًّا مشهورًا.
إنَّه لا يملُّ من قراءة قصصه على أصدقائه
ومَعارِفه، وكل مَن يُجالسونه، يُحسن كتابتها، ويُتقن طباعتها، ويَحمل
طيَّاتها في جيوبه، ثم يقرؤها على الناس في المقاهي والحدائق العامَّة، وفي
أوقات الراحة من العمل، يقرؤها حتَّى على من يجلسون بجانبه في وسائل
المواصلات المختلِفة، يقرأ كأنَّه في حلم!
كانت تنشر له بعض الدَّوريات التي لا
يهتمُّ بها غير قليلين، وكان يعرف أنَّ هذا بداية الطريق، لكنَّه كثيرًا ما
شعر بالإحباط واليأس، ثم يومًا خرج من ركنه، وظلَّ يَمضي كالشريد هائمًا
في طرقات المدينة، وعندما كاد أن يتَساقط على وجهه من فرط التَّعب
والإجهاد، نظر إلى الأمام، فإذا الأنوارُ والأضواء على غير ما اعتادَ
عليها؛ إنَّه نفس الشارع الذي قطعَه على قدميه مرَّات كثيرة، لكنَّه الآن
ملآن بالمرايا؛ مرايا ملوَّنة كثيرة، وفي كل اتِّجاه، تطلُّ منها وجوه
الناس التي تملأ الشارع الكبير، أخذ يتفرَّس فيها في ذهولٍ واضح؛ وجوه
كثيرة متقاربة إلى جوار بعضها، حدَّق أكثر.. إنَّ هناك نفسَ الوجه بألوانٍ
كثيرة! أخذَ يبحث عن وجهه هو بين تلك الوجوه.. وجدَه، لكن "أهذا الوجه
الضامر الصغير لي؟!" لا يُصدَّق؛ إنَّ وجهه لا يتغيَّر رغم اقترابِه من
المرايا! "لا بدَّ أن هذه المرايا كاذبة، لكن كيف؟ هل المرايا تكذب؟" لا بد
أنَّ وجهه كان قد تغيَّر عمَّا كان قبلاً، لا يَذْكر آخر مرَّة رأى فيها
نفسه، استجمع كلَّ طاقته ونظر إلى أعلى، ثم أطرق ببصرِه، كفَّ عن الذهول،
وانطلق إلى بيته.
نظر إلى مرآة الحمَّام، كانت لا تبين مما
غطَّاها من طبقات غبار، وأبخرةٍ تراكمَتْ حتَّى حوَّلت سطحها اللامع إلى
اللون الرماديِّ المعتم، نزعَها بسرعةٍ من الحائط ثم غسلها، جفَّفها في
قميصه، ثم أمسكَها بين يديه، ونظر.. هنا بدأَتْ ضرباتُ قلبه المتلاحقة
تهدأ؛ إنَّ له حقيقةً وجهًا ضامرًا صغيرًا، والمرايا لا تكذب، هنا جلس إلى
قصصه، نثَرَها أمامه.. طابت نفسُه بفكرةٍ كانت لعينيه منها بريقٌ آخَّاذ،
ثم جمع الأوراق ثانية، ووضَعها في حقيبته، وخرج مسرِعًا إلى الشارع.
دلف إلى أقرب الطُّرق إلى شاطئ البحر، كان
البحر هادئًا ليلاً، جميلاً في عينه كالمرأة الحبلى، وعبقريًّا كالإنسان
الأوَّل.. لم يُمهل نفسه، كان يعرف بالضَّبط ما يريد.. أخرج الأوراق، وأخذ -
وهو جالسٌ إلى صفحة البحر - يمرِّر قلمَه على أوراقه في خطوطٍ ورسوم غير
مفهومة، كان الضوء الشَّحيح الذي يأتيه من بعيدٍ لا يكاد يميِّز به
الكلمات، ورغم ذلك كأنَّه اكتشف طلاسِمَ لغةٍ قديمة يقف على كلِّ حرف،
وعندما فرغ نظر في انتشاءٍ إلى البحر، ثم نظرَ أخيرًا إلى أوراقه، جمعها في
قبضة يده اليمنى، ثم نثرها جميعًا بقوة حتَّى غطت الماء أمامه.
استدار للخلف عائدًا في سعادة غامرة؛ كمَن
انتصر لتوِّه في معركةٍ فاصلة.. وفي الصباح لم يكن مندهِشًا أنْ رأى قصصه
متداولةً في أيدي النَّاس.