[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]د. محمد أمحزونإن من أهم سمات التربية في
المرحلة المكية: الثبات على المبدأ، والصلابة في الحق، وعدم التنازل، ورفض أي شكل من أشكال المساومات وأنصاف الحلول في قضايا الدعوة.
لقد ظل رسول الله صامدًا أمام الإغراءات والعروض، لم ينثنِ ويتراجع أمام التحديات وأساليب التهديد والترهيب التي مارسها إزاءه المشركون؛ فلم يساوم قط في دينه، وهو في أحرج المواقف العصبية في مكة وهو محاصر بدعوته، وأصحابه القلائل يُتخطفون ويُؤذون في الله أشد الإيذاء، وهم صابرون محتسبون.
وقد اتخذت مساومة المشركين له في دعوته صورًا شتى من المساومة على الدعوة كلها بأساليب التهديد والترغيب -كما جاء في كتب الحديث والسيرة- إلى المساومة على جانب منها للالتقاء معه في منتصف الطريق، كما قال تعالى: {
وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9].
أسلوب المشركين في المساومة على الدعوة بالترهيب:لجأ المشركون في بادئ الأمر إلى أسلوب التهديد؛ لثني صاحب الدعوة عن المضي في طريقه المرسوم.
من ذلك: ما روي عن عقيل بن أبي طالب t قال: جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا، فانهه عنا. فقال: يا عقيل، انطلق فائتني بمحمد. فاستخرجته من كنس، أو قال: خنس -يقول بيت صغير- فجاء به في الظهيرة -في شدة الحر- فلما أتاهم قال: إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم. فحلَّق رسول الله ببصره إلى السماء فقال: "
ترون هذه الشمس؟" قالوا: نعم. قال: "ف
ما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشعلوا منه بشعلة". وفي رواية: "
والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحد من هذه الشمس شعلة من نار". فقال أبو طالب: والله ما كذب ابن أخي قط، فارجعوا راشدين[1].
وصورة أخرى كانت في إيذاء قومه له بعد أن أعياهم أمره، نقلها عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- وهو شاهد عيان، قال: "حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يومًا في الحِجْر، فذكروا رسول الله فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط؛ سفَّه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صرنا على أمر عظيم -أو كما قالوا-. قال: فبينما هم كذلك، إذ طلع عليهم رسول الله ، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مرَّ بهم طائفًا بالبيت، فلما أن مرَّ بهم غمزوه ببعض ما يقول، قال: فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى، فلما مرَّ بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فقال: "
تسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده! لقد جئتكم بالذبح". فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع... قال: فانصرف رسول الله حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم منه، حتى إذا بدأكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم في ذلك؛ إذ طلع رسول الله فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ -كما كان يبلغهم عنه من عيب آلهتهم ودينهم- قال: قيقول رسول الله : "
نعم، أنا الذي أقول ذلك". قال: فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه، قال: وقام أبو بكر الصديق t دونه يقول وهو يبكي: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟! ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشًا بلغت منه "[2].
وقوله: (فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشًا بلغت منه ): يعني ما رآه هو، وليس ما رأى غيره، حيث أوذي رسول الله بأكثر من ذلك، كما سبق ذكره.
أسلوب المشركين في المزاوجة بين الترهيب والترغيب:صورة أخرى للمساومة تجلَّت في التلميح بالتهديد والإغراء في آن واحد، وذلك بتوعُّده ثم إغرائه وعرض المناصب والمال والنساء عليه، فأبى عليهم.
فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: اجتمعت قريش للنبي يومًا، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرّق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه، ولينظر ما يرد عليه. قالوا: ما نعلم أحدًا غير عتبة بن ربيعة. قالوا: أنت يا أبا الوليد. فأتاه عتبة فقال:... أما والله ما رأينا سخطة أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى طار فيهم أن في قريش ساحرًا، وأن في قريش كاهنًا، ما ينتظر إلى مثل صيحة الحبلى بأن يقوم بعضنا لبعض بالسيوف حتى نتفانى.
أيها الرجل، إن كان إنما بك الحاجة؛ جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أغنى قريش رجلاً، وإن كان إنما بك الباءة؛ فاختر أي نساء قريش فنزوجك عشرًا. (وفي رواية ابن إسحاق: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً؛ جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تريد شرفًا؛ سودناك علينا فلا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد ملكًا؛ ملكناك علينا). فقال رسول الله : "
أفرغت؟" قال: نعم. قال: فقال رسول الله : "{
حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حتى بلغ {
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 1- 13]". فقال عتبة: حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: "
لا"[3].
ربما تساءل بعض الناس: لماذا لم يرض رسول الله -من باب الحكمة والسياسة- بالزعامة والملك على أن يقرر في نفسه اتخاذ الملك والزعامة وسيلة إلى تحقيق الدعوة والدولة فيما بعد، خصوصًا وأنَّ للسلطان والملك تأثيرًا قويًّا في النفوس؟
ولعل الإجابة تكمن في أن النبي لم يرض سلوك هذه الوسيلة إلى دعوته؛ لأن ذلك ينافي مبادئ الدعوة نفسها، ولأن المساومة كانت للعدول عن الدعوة، وفي الإسلام: الغاية لا تبرِّر الوسيلة؛ فالله تعبَّد المؤمنين بالوسائل كما تعبَّدهم بالغايات، فليس لأحد أن يسلك إلى الغاية التي شرعها الله سبحانه إلا بالوسيلة الشرعية الخاصة التي شرعها الله عز وجل[4].
استدراج صاحب الدعوة إلى أنصاف الحلول للتنازل عن بعض دعوته:وحاول المشركون فتنة النبي عن دينه ودعوته في صور أخرى؛ منها: استدراجه بإظهار الوفاق والاستجابة لما يدعوهم إليه إن هو مسَّ آلهتهم ولمَّ بها[5].
وفي رواية أخرى: طلبوا منه الانتظار لمدة سنة حتى يهدي لآلهتهم، ثم يسلموا بعد ذلك[6].
فهمَّ رسول الله أن يقاربهم ويدانيهم في بعض ذلك، لكن الله امتن عليه وعصمه من كيدهم وثبته على ما أوحي إليه، ووقاه الركون إليهم ولو قليلاً، ووقاه عاقبة هذا الركون؛ وهو عذاب الدنيا والآخرة مضاعفًا، وفقدان المعين النصير، كما في قوله تعالى: {
وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 73-75].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كان رسول الله معصومًا، ولكن هذا تعريف للأمة؛ لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في أحكام الله تعالى وشرائعه"[7].
وصورة أخرى للمساومة: فيما رواه الإمام الطبري بسنده إلى سعيد بن مينا مولى البَخْتَري قال: "لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله فقالوا: يا محمد، هلُمَّ فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشركك في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيرًا مما بأيدينا؛ كنا قد شركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيرًا مما في يدك؛ كنت قد أشركتنا في أمرنا، واخذت منه بحظك. فأنزل الله : {
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} حتى انقضت السورة"[8].
إن ما يستنتج من هذه الأساليب الماكرة المتنوعة: أن محاولات الحكام أو الملا مع أصحاب الدعوات لا تكاد تهدأ أو تفتر؛ إذ يحاولون ترهيبهم وتهديدهم لينصرفوا عن دعوتهم بالكلية. وإذا لم يفلحوا في هذا الجانب حاولوا إغراءهم بشتى الوسائل لينحرفوا -ولو قليلاً- عن استقامة الدعوة وصلابتها، وليرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها.
ومن ثَمَّ يطلبون منهم تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق؛ لأن الحكام يستدرجون أصحاب الدعوات، فإذا سلَّموا في جزءٍ فقدوا مقاومتهم وحصانتهم، وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة سينتهي إلى تسليم الصفقة كلِّها.
وجدير بالإشارة أن التسليم في جانب ولو ضئيل من جوانب الدعوة لكسب الحكام إلى صفها هو هزيمة نفسية بالاعتماد على أصحاب السلطان في نصرة الدعوة، والله وحده هو الذي يعتمد عليه المؤمنون في نصرة الحق[9].
الاستعصاء على المساومة مع شدة الحاجة إلى النصرة والتأييد:إن ثبات الدعوة على الطريق الذي تسلكه للوصول إلى هدفها الرئيس وهو التمكين لدين الله في الأرض، أمر يستدعي الاستعلاء على الضغوط والتحديات، والاستعصاء على الإغراء والمساومة، وهو ما يلحظه المتأمل في مواقف النبي الشديدة الاستعصاء على الاستدراج والتنازل، مع أنه كان في أشد الحاجة إلى المساعدة والنصرة والتأييد لتخفيف الضغط على نفسه وأتباعه.
ومثال ذلك: موقفه من عمه أبي لهب الذي أخذته حمية العصبية، فتدخَّل لحمايته بعد وفاة أبي طالب، فساء ذلك قريشًا، ورتَّبت خطة أنهت بها تلك الحماية بإيقاع النبي في موقف حرج؛ إذ ذهب أبو جهل وعقبة بن أبي معيط إلى أبي لهب فقالا له: أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك؟ فقال لهما بعد أن سأل رسول الله عن ذلك: إنه مع قومه. غير أنهما وعيا التورية في كلام النبي ، فدفعا أبا لهب إلى التعمق في استكناه موقفه بصراحة، فسأله مباشرة: أيدخل عبد المطلب النار؟ فردَّ النبي عليه: "
نعم، ومن مات على مثل ما مات عليه عبد المطلب دخل النار". فثارت ثائرته وقال: والله لا برحت لك عدوًّا أبدًا[10].
وهنا يتضح حرص النبي على صيانة دعوته وحفظ أصولها ومبادئها من أي تأويل أو توجيه يؤثر سلبًا على حقيقتها، مع علمه أنه بهذا الموقف يخسر غطاءً أمنيًّا هو في أمسّ الحاجة إليه.
ومن ذلك: موقف قبيلة بني عامر بن صعصعة عندما عرض عليها -عليه الصلاة والسلام- الدعوة، وطلب منها الحماية والنصرة، فقبلت على شرط أن يكون لها الأمر بعده، فرفض النبي قائلاً لهم: "
الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء"[11]. لعلمه أن الاستجابة لهم بهذا الصدد تعرض الدعوة لمخاطر قاتلة؛ تنتقل بها من دعوة للعالمين إلى ملكٍ يُورَّث، ووسيلة للاستعلاء على الخلق، وخدمة الأهداف والمصالح الخاصة[12].
على أن المتأمل في النماذج الآنفة الذكر من صور الترغيب والترهيب، والإغراء والمساومة، والاستدراج إلى التنازل وأنصاف الحلول؛ يلاحظ مدى خطورة التحديات التي كانت تهدد الدعوة بالانسياق وراء مواقف تستدرجها إلى تنازلات قاتلة، لولا
وضوح الرؤية لدى قيادتها، واستقامة منهج الحركة مع طبيعة الرسالة وحقائقها وأهدافها من جهة، و
سنن التغيير من جهة أخرى.
إن المفاصلة التي أمر بها الله -جل ذكره- رسوله ضرورية اليوم للدعاة؛ إذ إنه ليس هناك ترقيع مناهج، ولا أنصاف حلول، ولا التقاء في منتصف الطريق مع أعداء الدين من الكفار والمنافقين والمرتدين، إنما هي الدعوة إلى الدين الخالص، إلى تطبيق الإسلام وشريعته في كل نواحي الحياة، وإلا فهي البراءة الكاملة، والمفاصلة التامة، والحسم الصريح: {
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ[1] قال ابن حجر في المطالب العالية: رواه أبو يعلى وإسناده صحيح، والطبراني في الأوسط والكبير رقم (4278) 4/192. وقال الهيثمي في المجمع 6/15: رواه أبو يعلى باختصار يسير من أوله، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح.
[2] رواه أحمد في المسند 2/218، وقال الهيثمي في المجمع 6/16: رواه أحمد، وقد صرح ابن إسحاق بالسماع وبقية رجاله رجال الصحيح. وأخرجه البخاري مختصرًا في كتاب فضائل الصحابة، باب لو كنت متخذًا خليلاً 4/197، 198. وقال الحافظ: وصله البخاري في خلق أفعال العباد من طريقه، وأخرجه أبو يعلى وابن حبان من وجه آخر عن محمد بن عمرو. الفتح 7/169.
[3] رواه ابن هشام في السيرة 1/313، وصححه الشيخ الألباني في حاشية فقه السيرة للغزالي ص168. وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 14/295، 296. والحاكم في المستدرك، وصححه ووافقه الذهبي 2/153، 254. وأبو نعيم في الدلائل رقم (182) 1/299.
[4] إبراهيم علي أحمد: في السيرة النبوية ص86.
[5] رواه الطبري بسند حسن إلى قتادة، جامع البيان 9/130.
[6] المصدر نفسه 9/130.
[7] القرطبي: أحكام القرآن 10/300.
[8] رواه الطبري في تفسيره بسند حسن 15/331.
[9] سيد قطب: في ظلال القرآن 4/2245.
[10] ابن سعد: الطبقات 1/211، والنجم: إتحاف الورى بأخبار أم القرى 1/305، 306.
[11] ابن هشام: السيرة 2/33.
[12] الطيب برغوث: منهج النبي صلى الله عليه وسلم في حماية الدعوة ص399.